## السليماني: الجذور والنشأة التي صنعت القائد
ارتبط اسم قاسم سليماني، القائد الإيراني البارز، لعقود طويلة بالعديد من الأحداث المفصلية في الشرق الأوسط، وبصفته شخصية محورية، أثارت حياته ومسيرته تساؤلات كثيرة حول أصوله وجذوره التي شكلت شخصيته القيادية والعسكرية. “من أين جاء السليماني؟” هو سؤال يفتح نافذة على تاريخ رجل بدأ حياته في ظروف متواضعة، ليصعد إلى قمة الهرم العسكري والسياسي الإيراني.
## الجذور العائلية والنشأة المبكرة
تعد معرفة البيئة التي نشأ فيها قاسم سليماني مفتاحًا لفهم الكثير من جوانب شخصيته وتفانيه لقضيته. فخلف صورة الجنرال المحنك، يقف ابن قرية نائية واجه تحديات الحياة منذ صغره.
### الميلاد والموقع الجغرافي
ولد قاسم سليماني في 11 مارس عام 1957، في قرية “قناة ملك” التابعة لقضاء “رابر” بمحافظة “كرمان” في جنوب شرق إيران. تقع هذه المنطقة في قلب سلسلة جبال “كوهبنان”، وهي منطقة جبلية ونائية تتميز بطبيعتها الوعرة وتأخرها التنموي مقارنة بالمناطق الحضرية الكبرى في إيران. هذه البيئة الصعبة كان لها تأثير عميق على تكوينه البدني والنفسي، حيث علّمته الصبر والاعتماد على الذات والتعامل مع المشاق.
### البيئة الاجتماعية والاقتصادية
جاء سليماني من عائلة فلاحية بسيطة، شأنها شأن معظم سكان تلك المنطقة الريفية. كانت عائلته، مثل غيرها، تعتمد بشكل كبير على الزراعة، التي غالبًا ما تكون شحيحة وتخضع لتقلبات الطبيعة. عانى الفقر في طفولته، مما اضطره للعمل في سن مبكرة جدًا لمساعدة عائلته في تسديد الديون وتوفير لقمة العيش. هذا النضال المبكر ضد الفقر والحرمان زرع فيه روح التحدي والإصرار، وغرس فيه قيم التضحية والمسؤولية، وهي صفات لازمته طوال حياته.
## الشباب وبداية التوجه السياسي والديني
لم تكن حياة سليماني مجرد عمل وكد في المزرعة، بل شهدت سنوات شبابه الأولى بزوغ وعيه السياسي والديني، الذي قاده نحو مسار الثورة.
### سنوات ما قبل الثورة
في فترة شبابه، وكما هو شائع بين أبناء القرى بحثًا عن فرص أفضل، هاجر قاسم سليماني إلى مدينة كرمان المجاورة. هناك، عمل عامل بناء، وهي مهنة شاقة تتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا. في هذه الفترة، بدأ يتأثر بالخطاب الديني والسياسي المتنامي ضد نظام الشاه، خصوصًا أفكار الإمام روح الله الخميني الذي كان يكتسب شعبية واسعة بين الشباب الإيراني المتدين والطبقات الفقيرة. تعمقت لديه المشاعر الدينية والثورية، وشكلت قناعاته الفكرية التي ستقود حياته لاحقًا.
### الانخراط في الثورة الإسلامية
مع اشتعال شرارة الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كان سليماني من أوائل الشباب الذين استجابوا لنداء الإمام الخميني وانضموا إلى الحرس الثوري الإيراني، الذي تشكل لحماية مكتسبات الثورة. لم يكن لديه تدريب عسكري رسمي، لكن حماسه والتزامه وسجله الحافل بالعمل الجاد جعلت منه عنصرًا فاعلاً ومؤثرًا منذ البداية. كانت تلك نقطة التحول الكبرى في حياته، حيث انتقل من عامل بناء إلى جندي في صفوف الثورة.
## الخدمة العسكرية وصعوده
شهدت سنوات ما بعد الثورة تألق سليماني في السلك العسكري، ليثبت جدارته كقائد استراتيجي وتكتيكي.
### الحرب العراقية-الإيرانية
تزامنت بدايات سليماني في الحرس الثوري مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، والتي كانت بمثابة بوتقة صهر للعديد من القادة الإيرانيين. برز سليماني خلال هذه الحرب كقائد شجاع ومحنك، وتدرج سريعًا في الرتب بفضل كفاءته وشجاعته في ساحات القتال. قاد لواء 41 ثارالله الشهير، الذي كان يتألف بشكل كبير من مقاتلين من مسقط رأسه كرمان، وخاض معارك ضارية على الجبهات الجنوبية والشرقية. أكسبته هذه التجربة الميدانية الواسعة فهمًا عميقًا لفنون الحرب والتخطيط الاستراتيجي.
### قائد فيلق القدس
بعد انتهاء الحرب، واصل سليماني خدمته في الحرس الثوري، لكنه سرعان ما اكتسب شهرة أوسع ونفوذًا أكبر. في عام 1998، تم تعيينه قائدًا لفيلق القدس، الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني والمكلف بالعمليات السرية خارج الحدود الإيرانية. هذا المنصب وضعه في قلب العمليات الإقليمية لإيران، حيث لعب دورًا محوريًا في تشكيل السياسة الخارجية والأمنية للجمهورية الإسلامية في مناطق مثل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وأفغانستان. وبتحوله إلى مهندس رئيسي للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، أصبح سليماني رمزًا للنفوذ الإيراني.
## الخاتمة
تُظهر مسيرة قاسم سليماني تحولًا لافتًا من ابن قرية نائية وفقيرة في محافظة كرمان إلى أحد أقوى القادة العسكريين في الشرق الأوسط. لم تكن خلفيته المتواضعة عائقًا، بل كانت حافزًا له لتطوير مهاراته القيادية والاستراتيجية. شكلت نشأته البسيطة وعمق ارتباطه بجذوره الإيرانية الريفية جزءًا أساسيًا في تكوين شخصيته المتفانية، التي كرست حياتها بالكامل لما اعتبره خدمة للثورة والوطن.
